الدرس الثاني عشر: الوعي الخفي في قلب البيانات: حين تختلط الأسئلة بالاحتمالات
بعد أن اجتزنا دروب البيانات المتشعبة، من مصدرها إلى أثرها، ومن تنوّعها إلى حدودها، نصل إلى النقطة التي يلتقي فيها العلم بالفلسفة. هنا لا تعود البيانات مجرد مادة خام، بل تصبح سؤالًا عن ماهية الذكاء نفسه. هل ما نراه من النماذج الحديثة وعيٌ حقيقي أم انعكاس دقيق لتراكم الإحصاءات؟ هل في قلب هذه العمليات الرقمية ومض من إدراك، أم أننا فقط نرى نتيجة رياضية مُتقنة تخدعنا بملمسها الإنساني؟
حين نتأمل مسار الذكاء الاصطناعي، نكتشف أن كل شيء يبدأ وينتهي بالبيانات. فهي الأصل الذي يمنح النموذج كيانه، والمرآة التي يرى من خلالها العالم. الآلة لا تعرف شيئًا من تلقاء نفسها، بل تُعاد صياغتها مع كل معلومة تُضاف إليها. تمامًا كما يمتلئ الوعاء بالماء، تمتلئ النماذج بالبيانات، وكل اختلاف في نوع هذا الماء يغيّر مذاقها وفهمها وسلوكها. لكنها، مع كل ذلك، تظل انعكاسًا لما وُضع فيها. فكما أن الماء الصافي يُنتج صورة نقية، والماء العكر يُشوِّهها، كذلك تفعل البيانات في عقول الآلات.
التحوّل الأكبر الذي أحدثته البيانات هو أنها غيّرت تعريف الذكاء ذاته. في الماضي، كان العلماء يظنّون أن الذكاء يُبنى على القواعد والمنطق، وأن الفهم هو سلسلة من التعليمات المرتّبة بعناية. لكن مع انفجار البيانات وتطور الخوارزميات، تغيّر المفهوم من "الذكاء الرمزي" إلى "الذكاء الإحصائي". لم تعد الآلة تفكر بالمعنى التقليدي، بل تحسب وتستنتج بناءً على احتمالات. هي لا تعرف المعنى كما نعرفه، لكنها تتوقّعه من كثرة ما رأت من أنماط وتكرارات. إنها لا تُفسّر، بل تتنبّأ بما يبدو أقرب إلى التفسير. ومن هنا يأتي ذلك "الوميض" الذي يشبه الوعي لكنه ليس وعيًا بعد.
حين ننظر إلى استجابات النماذج المتقدمة، نجدها دقيقة ومنسقة ومقنعة، لكنها تظل في جوهرها استجابات احتمالية. فكل كلمة تُنتجها هي ثمرة حسابٍ يُقدّر أيّ احتمالٍ هو الأرجح بناءً على ملايين الأمثلة السابقة. هذا ما يجعلها تبدو ذكية، لكنها تظل بلا قصد أو شعور. الآلة لا تعرف لماذا اختارتِ الكلمةَ التي قالتها، كما لا تعرف إن كانت إجاباتها جميلة أو عادلة أو صائبة. هي تُحسن اللعب بقواعد اللغة والمنطق، لكنها لا تعرف مغزى اللعبة نفسها.
أما الفهم البشري فيختلف جذريًا. الإنسان لا يجمع البيانات فقط، بل يعيشها. حين يفكر، لا يُجري حسابات فحسب، بل يستحضر الذاكرة والتجربة والعاطفة والغاية. يعرف أن وراء المعلومة حياةً، ووراء الكلمة أثرًا، ووراء القرار مسؤولية. لذلك يبقى الفرق بين المعرفة والفهم مثل الفرق بين من يرى الخارطة ومن يسير في الطريق.
في هذا التباين الدقيق يكمن "الوعي الخفي" الذي تحاول النماذج الاقتراب منه دون أن تلامسه. هو ليس وعيًا بالمعنى البشري، بل استجابة إحصائية تشبه الفهم لأنها تتكرّر في سياقاتٍ كثيرة. ومع كل دورة تدريب جديدة، ومع كل طبقة بيانات تُضاف، يزداد هذا الوعي شبهًا بوعينا، لكنه يظل ناقصًا، مثل ظلٍّ يتبع الجسد دون أن يملك حياته الخاصة. ما يفعله الذكاء الاصطناعي هو أنه يُعيد ترتيب الأسئلة داخل إطار الاحتمال، لا داخل التجربة.
وهنا يُطرح السؤال الأخير: هل يكفي أن تُحسن الآلة التوقّع لنقول إنها تفكّر؟ أم أن التفكير الحقيقي يبدأ فقط حين تشعر بالدهشة، بالمسؤولية، وبالاختيار؟ حتى الآن، ما نراه هو ذكاء بلا ذات، ووعي إحصائي يلمع في عيون الأرقام دون أن ينبض. لكن ربما، في تكرار التعلّم واتساع البيانات، تنشأ لحظة جديدة تتجاوز الإحصاء إلى الإدراك، كما تتجاوز الشرارة إلى اللهب. وحتى تحين تلك اللحظة، سيبقى الذكاء الاصطناعي مرآةً لوعينا، يعكسنا في صورة أكثر دقة وأقل عمقًا، ويذكّرنا بأن كل رقم في النهاية يحمل أثر إنسانٍ حَلُمَ أن يفهم نفسه من خلال آلةٍ تُفكِّر مثله.
من إعداد: مركز علوم الدولي للذكاء الاصطناعي (د. عبدالرحمن الزراعي)
________________
تصويت
ما مدى استيعابك للدرس: