الدرس 09 – مرتكزات الذكاء الاصطناعي - البيانات
الدرس التاسع: من أين تأتي البيانات؟ مصادر المعرفة وتدفّقاتها في عالم الذكاء الاصطناعي
البيانات لا تهبط من السماء، بل تُستخرج من تفاصيل حياتنا اليومية، من كل ضغطة زر، وكل صورة تُلتقط، وكل كلمة تُكتب على شبكة الإنترنت. إنها لا تُنتج في مختبرٍ مغلق، بل تتدفّق من العالم بكل ضجيجه وتنوّعه، ثم تُنقّى وتُنظَّم قبل أن تُقدَّم للنماذج لتتعلّم منها. في جوهر الأمر، الذكاء الاصطناعي لا يملك معرفة ذاتية، بل يعيش على ما نمنحه من أثرنا الرقمي، ومن هذا الأثر تُبنى قدرته على الفهم والتوقّع والتحليل.
أكبر منجم للبيانات في عصرنا هو الإنترنت. هذه الشبكة العملاقة التي تحتوي على مليارات النصوص والصور والمقاطع الصوتية، تمثل المصدر الأول لتغذية النماذج. من المقالات الموسوعية إلى المدونات الشخصية، ومن المنتديات القديمة إلى الأرشيفات العلمية، تُستخرج البيانات النصية والبصرية لتشكّل الأساس الذي تُبنى عليه النماذج اللغوية والمرئية الحديثة. غير أن هذه العملية ليست عشوائية كما قد يبدو، فهي تمر عبر فلاتر دقيقة تُقصي المصادر الرديئة والمعلومات غير الموثوقة. فالنماذج لا تتعلّم من الإنترنت كله، بل من الأجزاء التي تتحقق فيها معايير الجودة والسلامة والخصوصية. البيانات المحمية قانونًا تُستبعد، والمحتويات المسيئة أو غير الموثقة تُزال. إنها عملية تنقيب رقمية ضخمة تهدف إلى استخلاص المعرفة من وسط فوضى العالم الرقمي.
لكن الإنترنت ليس المصدر الوحيد. فكل مستخدم في العالم الحديث هو أيضًا منتِج للبيانات. الكلمات التي يكتبها في محرك البحث، المقالات التي يقرأها، المنتجات التي يشتريها، وحتى الوقت الذي يقضيه في كل صفحة، كلها تُسجَّل في صورة آثار رقمية يمكن أن تتحول إلى بيانات تحليلية. هذه البيانات الشخصية تُستخدم أحيانًا لتحسين تجربة المستخدم، مثل اقتراح المنتجات أو تخصيص المحتوى، وأحيانًا تُستثمر في تدريب النماذج على فهم السلوك الإنساني بشكل أوسع. غير أن ذلك لا يتم دون قيود صارمة، إذ تخضع هذه العمليات لقوانين حماية الخصوصية التي تحدد ما يجوز جَمْعُهُ وما لا يجوز، حتى لا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى أداة مراقبة تتعدى على الحياة الفردية. الإنسان في هذا السياق ليس فقط المتلقّي للذكاء الاصطناعي، بل هو أيضًا مصدره الأول ومادته الخام.
مصدر ثالث بالغ الأهمية هو قواعد البيانات المفتوحة، التي تُنشَر بإشراف مؤسسات علمية أو حكومية أو تعليمية. هذه القواعد تتضمن بيانات المناخ، والإحصاءات الاقتصادية، والموسوعات اللغوية، والخرائط الجغرافية، والأرشيفات الطبية. ما يميز هذه المصادر هو أنها مصممة لخدمة البحث والتعليم، وتخضع لمراجعات دورية تضمن دقتها وموثوقيتها. النماذج البحثية والأكاديمية تعتمد عليها لأنها توفر مادة غنية ومنظّمة تساعد على بناء أنظمة أكثر استقرارًا وشفافية. ومع ذلك، تختلف المؤسسات التعليمية في درجة اعتمادها لهذه البيانات بوصفها مرجعية، لأن بعضها يرى ضرورة مراجعتها محليًا قبل إدخالها إلى أنظمة التعلّم الآلي.
ثم هناك المصدر الذي يعمل بصمتٍ مستمر: الأجهزة الذكية. الهواتف المحمولة، والساعات الذكية، والسيارات الحديثة، والكاميرات المنزلية، كلها أدوات تجمع البيانات على مدار الساعة. فهي تراقب مواقعنا الجغرافية، وعدد خطواتنا، وسرعة القيادة، وحتى درجة الحرارة المحيطة. كل هذه المعلومات تُستخدم لتحسين الخدمات، وضبط الأداء، ومساعدة النماذج في تحليل السلوك الواقعي للإنسان. على سبيل المثال، يمكن لتطبيق صحي أن يتتبّع معدّل النوم والنشاط ويقترح خططًا مناسبة، ومع ظهور ما يُعرف بإنترنت الأشياء، أصبحت الأجهزة نفسها شبكات صغيرة من البيانات تتفاعل فيما بينها، وتولّد تدفقات مستمرة تغذّي الذكاء الاصطناعي في الزمن الحقيقي.
هكذا تتضح الصورة: البيانات لا تأتي من مصدر واحد، بل من منظومة معقدة من القنوات المتشابكة. من الإنترنت المفتوح إلى الأجهزة الشخصية، ومن الأرشيفات الأكاديمية إلى التطبيقات اليومية، تتدفق البيانات عبر مستويات متباينة من الدقة والحساسية. بعضها عام ومتاح للجميع، وبعضها خاص لا يُستخدم إلا ضمن موافقات محدّدة، وبعضها الآخر مجهول الهوية يُستخدم لأغراض التحليل فقط. هذا التنوّع في المنابع هو ما يمنح الذكاء الاصطناعي عمقه واتساعه، لكنه في الوقت نفسه يفرض عليه مسؤولية ثقيلة في إدارة هذه المعرفة.
فالذكاء الاصطناعي لا يتعلّم في الفراغ، بل يتشكّل من العالم الذي نعيشه نحن. وكل معلومة نضعها في متناول الشبكة، قد تصبح غدًا لبنة في بناء عقل رقمي جديد. إن فهم مصادر البيانات ليس مجرد جانب تقني، بل هو إدراك فلسفي للعلاقة بين الإنسان والآلة، بين المعرفة والخصوصية، وبين المشاركة والمسؤولية. فحين نسأل "من أين تأتي البيانات؟" فإننا في الحقيقة نسأل "من أين يأتي الذكاء ذاته؟"
من إعداد: مركز علوم الدولي للذكاء الاصطناعي (د. عبد الرحمن الزراعي)
____________________
الكلمات المفتاحية:
#الذكاء_الاصطناعي #التعلم_الآلي #تعلم_عميق #DeepLearning #الذكاء_المعزز #AugmentedIntelligence #نموذج_لغة_ضخم #LargeLanguageModels #شات_GPT #أنظمة_توصية #خوارزميات_التوصية #الرؤية_الحاسوبية #ComputerVision #تحليل_الصور #معالجة_اللغة_الطبيعية #NLP #فهم_النصوص #نماذج_توليدية #GenerativeAI #شبكات_GAN #شبكات_الخصومة #تعلم_معزز #ReinforcementLearning #تصنيف_آلي #أنماط_بيانات #التعرف_على_الأنماط #إدارة_البيانات #DataPipelines #الاستدلال_الإحصائي #BayesianInference #تحليلات_ذكية #خوارزميات_ذكية
4:54
25
18 comments
Abdulrahman Alzarraei
6
الدرس 09 – مرتكزات الذكاء الاصطناعي - البيانات
powered by
تطوير النماذج العربية الذكية
انضمّ إلى أكاديمية علوم الدولية للذكاء الاصطناعي لإنشاء مشاريع ربحية قابلة للتنفيذ خلال أيام، ودون الحاجة إلى أية خبرة تقنية أو تكلفة تشغيلية
Build your own community
Bring people together around your passion and get paid.
Powered by