الدرس الأول: ما هي الخوارزميات؟ وكيف تفلّتت من الحساب اليدوي إلى لغة الآلة؟
حين تصل إلى هذا الدرس، تشعر كأنك تقف عند بداية طريق جديد يمتد أمامك منظمًا وواضح المعالم، طريق يشبه المسار الذي تتخذه أية فكرة حين تتحول من مجرد خاطر في الذهن إلى خطة يمكن السير عليها. وهكذا تمامًا تُولد الخوارزمية: ليس من التعقيد، ولا من المعادلات الغامضة، بل من الرغبة القديمة التي يحملها العقل البشري في أن يجعل للفكرة طريقًا مستقيمًا، يبدأ بخطوة واضحة ثم يتدرج ليصل إلى حلّ لا يتوه صاحبه فيه.
وتبدأ القصة من لحظة انتقالنا من مرتكز البيانات، إلى هذا المرتكز الجديد الذي يمنح تلك المادة حياتها. فإذا كانت البيانات كلمات مبعثرة بلا لغة، فإن الخوارزمية هي اللغة التي تجعل تلك الكلمات جملة مفهومة. وإذا كانت البيانات مادة خام، فإن الخوارزمية هي الوصفة التي تمنحها حركة ومعنى. إنها الطريق الذي يوجّه العقل والآلة من الفكرة إلى النتيجة.
وعندما تسمع كلمة «خوارزمية»، قد يتبادر إلى ذهنك شيء غامض مغطى بالرموز الرياضية، لغة لا يتقنها إلا قلة من المبرمجين. لكن الحقيقة أبسط من ذلك بكثير؛ فأنت تتّبع في غالب أعمالك خوارزميات دون أن تسميها. فحين تُعدّ كوب قهوة، أو تفتح بابًا بطريقة معينة، أو تضع خطة لإنهاء أعمالك، فأنت تمشي على طريق منظّم: خطوة أولى، ثم خطوة ثانية، ثم ثالثة، حتى تصل إلى غايتك. هذا التنظيم هو جوهر الخوارزمية؛ ليس التعقيد، بل وضوح الطريق.
وهكذا تتضح قوة الخوارزمية: أنها تجعل العقل أو الآلة قادرًا على التعامل مع التعقيد دون ارتباك. حين تقف أمام مكتبة فوضوية لا تعرف أي كتاب تبحث عنه، ستحتاج إلى وقت طويل لتقرأها كتابًا كتابًا. لكن الحاسوب لا يرى المشهد بهذه الفوضى؛ لأنه يسير على خوارزمية فرز أو بحث واضحة، تنظم الكتب، وتقارن بينها، وتجد المطلوب خلال لحظات. لذلك تُسمى الخوارزمية «المنطق العامل»: لأنها تحوّل الفكرة إلى حركة، وتحوّل السؤال إلى طريق يصل بك إلى الجواب.
والخوارزمية كذلك هي الجسر الذي يربط الإنسان بالآلة. أنت تُفكّر، ثم تحول تفكيرك إلى خطوات، والخوارزمية تأخذ هذه الخطوات فتترجمها إلى تعليمات دقيقة يفهمها الحاسوب. وهكذا تتعاون اللغتان -لغة البشر ولغة الأرقام- لتنتج تطبيقًا ذكيًا نراه اليوم؛ من الترجمة الفورية إلى التعرّف على الوجوه، ومن البحث في قواعد البيانات إلى قيادة السيارات ذاتيًا. في قلب كل هذه التطبيقات طريق خوارزمي يبدأ بفكرة إنسانية وينتهي بقرار آلي.
أما التفكير الخوارزمي نفسه فليس حكرًا على المبرمجين؛ فكل شخص يضع خطة، أو ينظم يومه، أو يحل مشكلة، الفرق الوحيد أن المبرمج يكتب طريقه بلغة تفهمها الآلة. وهكذا تصبح الخوارزمية أسلوبًا لفهم العالم، لا مجرد تعليمات للحاسوب. وفي عالم الذكاء الاصطناعي، تكتسب الخوارزمية معنًى أعمق؛ فهي ليست اتجاهَ سير فقط، بل هي اللغة التي يفهم بها النظام البيانات، وينظم بها العلاقات، ويتعلم بها من التجارب. إنها العقل الذي يقول للآلة: «هكذا تفهم، وهكذا تتعلم، وهكذا تقرر».
ومن هنا، إذا عُدْت بالزمن إلى الوراء قليلاً، ستجد أن هذه الفكرة لم تبدأ مع الحاسوب، بل مع الإنسان نفسه. حين تفتح صفحة التاريخ، لم تكن هناك أجهزة ولا معالجات، بل ورقة، وقلم، وذهن يبحث عن طريقة واضحة يسير فيها دون أن يضيع. في تلك اللحظة الأولى وُلد الطريق الخوارزمي: طريق يعتمد على خطوة تليها خطوة، وعلى بداية تقود إلى نهاية محددة، وعلى ترتيب يجعل الفكرة تسير كما يسير المسافر في طريق يعرف معالمه.
وتزداد الصورة وضوحًا حين تقترب من القرن الثالث الهجري، حيث تجد عالما يقف في قلب بغداد، إنه محمد بن موسى الخوارزمي. لم يكن يبحث عن الحلول فقط، بل عن الطريق الذي يضمن الوصول إليها دائمًا. حين وضع خطوات الجبر كما يضع المعماري أساسات البناء: خطوة أولى تحدد المعطيات، ثم خطوة تزيل المجهول، ثم خطوة تعيد الترتيب، ثم خطوة تصل إلى الجواب. هذا الطريق المنظم هو ما جعل اسمه -بعد قرون من ترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية- يتحول إلى «Algoritmi»، ثم إلى كلمة «Algorithm» التي أصبحت اليوم لغة الأنظمة الذكية.
ومع مرور الزمن، ترى الطريق ينتقل من الورقة والقلم إلى المِسطرة والآلة الحاسبة، ثم إلى شرائح صغيرة داخل الأجهزة الأولى. لقد بدأت الخوارزمية تتحول من خطوات بشرية إلى لغة يمكن للآلة قراءتها. ومع منتصف القرن العشرين، حين ظهرت الحواسيب الأولى، بدت هذه الآلات كأنها وُجدت خصيصًا لهذا الطريق؛ ولهذا أصبحت الخوارزميات قلب الحوسبة، وصارت لغات البرمجة مجرد طريقة لترجمة الطريق البشري إلى أوامر إلكترونية.
ولكي ترى هذا التحول بعينيك، يكفي أن تتأمل خوارزمية بسيطة مثل خوارزمية إقليدس لإيجاد القاسم المشترك الأكبر؛ بضع خطوات متكررة تكفي دائمًا للوصول إلى الحل، دون أن يضطر أحد إلى إعادة التفكير في كل مرة. فحين تريد إيجاد القاسم المشترك الأكبر بين عددين؛ تتبع سلسلة مرتبة من القسمة والبواقي حتى ينتهي الباقي إلى صفر، فتعرف أن النتيجة النهائية هي ذلك العدد الأخير غير الصفري. خطوات قليلة، لكنها تبني طريقًا عامًا لا يعتمد على التخمين. وهنا تدرك أن العبقرية الخوارزمية ليست في صعوبة الخطوات، بل في ثبات المسار وإمكانية تكراره.
مركز علوم الدولي (د. عبدالرحمن الزراعي)
________
تصويت
ما مدى استيعابك الدرس