الدرس الثامن: التأثير على سوق العمل والمجتمع – هل سيأخذ الذكاء الاصطناعي وظائفنا أم سيخلق أخرى؟
يأتي الذكاء الاصطناعي اليوم كتردد جديد يهزّ العالم، يشبه الموجة التي عرفتها البشرية مع كل ثورة صناعية كبرى. فكما غيّر المحرّك البخاري شكل العمل في العصور السابقة، ودفعت الكهرباء بالمجتمعات إلى عهد حديث، وفتح الحاسوب أبوابًا واسعة لعوالم رقمية لم تعرفها البشرية من قبل، يأتي الذكاء الاصطناعي ليقلب صفحة جديدة من صفحات التاريخ. غير أن الفرق هذه المرة عميق؛ فالآلات السابقة كانت تنافس عضلات الإنسان، أما الذكاء الاصطناعي فيقترب من مناطقه العقلية، من التحليل والكتابة والتصميم واتخاذ القرار، مما جعل الخوف عامًا، والقلق حاضرًا في كل نقاش.
وحين ننظر إلى سوق العمل عن قرب، نجد أن الذكاء الاصطناعي لا “يلتهم” الوظائف كما يحدث في القصص المتداولة، بل يعيد توزيعها على نحو مختلف. فالأعمال التي تعتمد على التكرار، وتعليمات واضحة، وخطوات لا تتطلب حكمًا بشريًا أو حسًا إبداعيًا، تصبح أول المتأثرين؛ مثل إدخال البيانات والخدمات الميكانيكية والدعم الأولي في المحاسبة والقانون. فالخوارزمية تنجز هذه المهام بسرعة أكبر، وبتكلفة أقل، دون أن تشعر بالملل أو الإرهاق. ومع ذلك، فإن هذا التراجع لا يعني نهاية العمل، بل بداية مرحلة تتطلب مهارات جديدة.
وفي المقابل، تفتح الثورة فرصًا واسعة في مجالات لم تكن موجودة قبل سنوات قليلة. فتصميم الأنظمة الذكية وصيانتها أصبح مهنة كاملة تحتاج إلى خبرة وفهم. وتحليل البيانات العميقة، وصنع القرارات المدعومة بالتعلم الآلي، صارت أعمالًا أساسية في المؤسسات الكبرى. ويبرز كذلك دور جديد لم يكن مألوفًا: إدارة الذكاء الاصطناعي نفسه، وتقييم مدى حياده، وضبط جودته، وتحليل أثره الأخلاقي. وهنا يتحول العامل من منفّذ للإجراءات إلى مشرف يوجه الآلة ويستفيد من قدراتها، لا إلى بديل تُقصيه التقنية.
ولا يقف التأثير عند حدود الوظيفة فقط، بل يطال المجتمع بأكمله حين تهتز بنية العمل. فالوظيفة ليست مصدر رزق وحسب، بل جزء من الهوية والشعور بالقيمة والانتماء. وعندما تختفي وظائف دون ظهور بدائل مناسبة، تتولد فجوات اقتصادية واجتماعية، ويزداد القلق بين فئات لا تمتلك المهارات الرقمية. وقد أظهرت تجارب بعض الدول — خصوصًا الدول الاسكندنافية — أن مواجهة هذا التحول لا تتم بالمنع أو الخوف، بل بالتأهيل المستمر، وإعطاء الناس فرصًا للتعلم، وتسهيل الانتقال بين المهن بدل الاكتفاء بالتعويض المادي عن البطالة.
ويبرز في هذا المشهد سؤال أخلاقي واسع: هل يمكن أن نسمح بأن تجني المؤسسات أرباحًا ضخمة من الأتمتة بينما يُترك العامل دون تدريب أو دعم؟ وهل من العدل أن تصبح الفجوة الرقمية بين الدول سببًا جديدًا في تعميق الفوارق العالمية؟ تكمن الأخلاق هنا في العدالة قبل كل شيء، في ضمان ألا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى أداة إقصاء، بل إلى وسيلة تفتح الأبواب أمام الجميع، وأن تُعاد صياغة فكرة “العمل” نفسها بما يتناسب مع واقع جديد لا يتوقف عن التغير.
وفي النهاية، لا يعلن الذكاء الاصطناعي نهاية الوظيفة البشرية، بل يعلن تحولها. فالمهارات التي ستبقى هي تلك التي يصعب على الآلة تقليدها: الخيال، والحس الإنساني، والتفكير النقدي، وقراءة السياقات، وقيادة الأنظمة بدل الانصياع لها. ولن تكون الوظائف في المستقبل لمن يحفظ الإجراءات، بل لمن يوجّه الآلة، ويصوّب قراراتها، ويقرأ نتائجها بحكمة. وهكذا ينتقل الإنسان من دور العامل داخل النظام إلى دور القائد الذي يقف فوق النظام.
وإذا تأملنا المشهد كله، نجد أن الذكاء الاصطناعي لا يهدد الإنسان بقدر ما يختبر قدرته على التعلم من جديد. فمن يتمسك بالماضي وحده سيشعر أنه يُستبدل، أما من يقبل التغيير ويتقنه، فسيجد نفسه أكثر ضرورة من أي وقت مضى، لأن الآلة مهما تقدمت تحتاج إلى من يفهمها ويهذب خطاها ويراقب أثرها على العالم من حولها.
مركز علوم الدولي (د. عبد الرحمن الزراعي)
_______
هل استوعبت الدرس؟