الدرس السادس: الذكاء الاصطناعي والانتحال – هل ما تنتجه الآلة إبداع أصيل أم نسخة متقنة؟
لم يعد الإبداع في عصرنا الحاضر امتيازًا محفوظًا للبشر وحدهم، فقد دخلت الخوارزميات إلى ساحة الفن والأدب والموسيقى دخولًا لم يكن يتخيّله أحد قبل سنوات قليلة، وصار بإمكاننا أن نطلب من نظام توليدي أن يكتب قصيدة أو يرسم لوحة أو يلحن مقطوعة، فيستجيب خلال ثوانٍ بعمل يبدو في كثير من الأحيان فريدًا في صورته، متقنًا في تكوينه، شديد القرب من لغة الفن التي ألفها الإنسان. لكن خلف هذا الانبهار الذي يلفُّ المشهد توجد منطقة رمادية تثير أكبر الأسئلة الأخلاقية في عصر الذكاء الاصطناعي: هل ما تنتجه الآلة إبداعٌ أصيل يولد في لحظته، أم أنه مجرد صدى للماضي، إعادة تركيب حسابية لجمالٍ ابتدعه البشر أولًا، ثم أعادته الخوارزميات في ثوب جديد؟
إن الذكاء الاصطناعي لا يخلق من فراغ، فهو لا يملك طفولةً فنية ولا خبرةً تراكمية مبنية على التجربة الذاتية، وإنما يستمد معرفته من بحر واسع من البيانات أنتجتها البشرية عبر قرون؛ نصوص، صور، لوحات، مقطوعات موسيقية، وقصص وأساليب ومجازات لا تحصى. ومن هذا البحر يتعلم الأنماط ويخزّن البنى الجمالية والأسلوبية، ثم يعيد تركيبها عندما يُطلب منه أن ينتج محتوى جديدًا. وبين التعلم من الماضي وإعادة إنتاجه، تمتد تلك المسافة الدقيقة التي يختلط فيها الإلهام بالانتحال، والابتكار بالتقليد، والصوت الأصلي بصدى الأصوات الأخرى التي سبقته. وهكذا يبدأ الإشكال: متى يكون ما تنتجه الآلة إبداعًا جديدًا فعلاً؟ ومتى يكون مجرد نسخةٍ متقنة من شيء مضى؟
وحين نتأمل مفهوم الانتحال ذاته، ندرك أن الانتحال البشري فعلٌ يقوم على القصد والوعي، فالإنسان الذي يستنسخ عمل غيره إنما يفعل ذلك وهو يعرف أنه يأخذ ما ليس له، لكنه يفعل رغبةً في المنفعة أو شهرة أو تجاوزًا لنقصٍ في القدرة. أما الانتحال الآلي فطبيعته مختلفة، فهو أعمق خفاءً وأشد التباسًا، لأن الآلة لا تعلم أنها تنتحل، ولا تعرف أنها تعيد إنتاج أثرٍ سابق، ولا تملك إدراكًا لمعنى الأصالة أو الملكية، فهي ببساطة تستدعي ما تعلّمته، وتنسّق ما رأته، وتعيد بناء ما حفظته من آثار البشر. فإذا طلبت من نموذجٍ بصري مثلًا أن يرسم لوحة في "أسلوب فان غوخ"، فإن النظام قد يقدم مشهدًا لم يره العالم من قبل، لكنه يحمل في تفاصيله الدقيقة ما يشبه البصمة الفنية الموروثة من هذا الفنان، كأنما روح الأسلوب ذاته تحرك الخطوط والألوان دون أن تعرف الخوارزمية شيئًا عن معنى التقليد أو الإبداع.
وهنا يتضح البعد الأخلاقي للانتحال الآلي، فهو لا يتعلق بالشبه الفني وحده، بل يتعلق بما يترتب على هذا الشبه من أثر في منظومة العدالة الإبداعية. فعندما يُنتج النظام عملًا يشبه عملاً محميًا بحقوق الملكية الفكرية، فإنه يقع في منطقة قد تُعد انتهاكًا لحقوق صاحبه، حتى لو لم يكن "يقصد" ذلك على نحو واعٍ. وعندما تنتشر أعمال تُنتج في أسلوب فنانٍ معين دون إذنه، يضطرب معنى الهوية الفنية ويختلط الأصل بالنسخة، فلا يعود الجمهور قادرًا على التمييز بين ما خرج من يد الفنان وما خرج من يد الآلة. بل إن بعض المحتوى الآلي يُقدّم أحيانًا للجمهور بوصفه محتوى أصيلًا، فينشأ خطر تضليلٍ ثقافي يهدد ثقة الناس في مفهوم الإبداع نفسه، إذ يبدو كأن الحدود بين الإنسان والآلة بدأت تتلاشى في عالم الجمال.
وقد شهد الواقع أمثلة عديدة لهذا الالتباس؛ ففنانة رقمية اكتشفت أن أحد النماذج يولّد محتوى يحمل ملامح أسلوبها بدقة مدهشة، حتى بدا كأن الخوارزمية أعادت إنتاج بصمتها الفنية دون إذن منها، فرفعت دعوى ضد الشركة المطوّرة بدعوى استغلال أسلوبها التجاري. وكاتب روائي تفاجأ بوجود فقراتٍ من روايته منشورة داخل نص مولّد من نموذج لغوي شهير، بنفس الاستعارات تقريبًا، مما دفعه إلى تساؤل عميق حول حدود التدريب وحقوق المؤلف. ومصور محترف وجد أن صورًا تُباع على المنصات الرقمية بأسلوبه نفسه، مما أثار تساؤلاً حول ملكية الأسلوب ذاته، وهل يحق للفنان أن يمتلك "النمط" كما يمتلك العمل؟ هذه القضايا لم تُحسم كلها بعد، لكنها كشفت عن سؤال ثقافي أوسع: هل الإبداع ملك للبشر وحدهم، أم أن الآلة يمكن أن تكون شريكًا فيه دون أن تتعدى على حقوق من ألهمها؟
وتعود جذور المشكلة في جزء كبير منها إلى طريقة تدريب النماذج التوليدية، إذ تُغذّى هذه النماذج بملايين النماذج البشرية المأخوذة غالبًا من الإنترنت، وفي كثير من الأحيان دون إذنٍ مباشر من أصحابها. وتتعلم الخوارزمية من الأنماط والأساليب والبنى اللغوية والبصرية، ثم تعيد تركيبها في إنتاج جديد. لكن هذا "الجديد" ليس نتيجة خيال واعٍ، بل هو مزيج حسابي يصهر آلاف العناصر في قالب واحد. والآلة لا تدرك معنى السرقة أو الانتحال، لكنها قد تمارسه دون وعي إذا لم تُضبط حدودها، فيقع العبء هنا على الشركات والمطورين لضمان أن يكون التعلم قانونيًا وأخلاقيًا، وأن لا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى بقعة معتمة تنتهك حقوق المبدعين دون مساءلة.
وقد بدأت تظهر حلولٌ متعددة لمواجهة هذا التحدي، منها الاعتماد على بيانات مرخصة أو متاحة ضمن الملكية العامة، واستخدام علامات مائية رقمية يمكن من خلالها الكشف عن المحتوى المولّد، وتضمين مؤشرات شفافية توضّح مصادر التدريب وقواعد البيانات المستخدمة، وتطوير خوارزميات كشف التشابه التي تقارن المخرجات بمحتوى موجود مسبقًا لمنع أي انتهاك قبل النشر. لكن الحل لا يمكن أن يكون تقنيًا وحده، فالإبداع ليس مجرد عملية تجمع بين الخوارزميات والبيانات، بل هو علاقة أخلاقية بين الفكرة وصاحبها، ولهذا فإن بناء ثقافة مجتمعية واعية بالقيمة الإنسانية وراء الفن هو جزء أساسي من حماية الإبداع في زمن الآلة.
والذكاء الاصطناعي، على الرغم من قدرته المذهلة على المحاكاة، يبقى مرهونًا بقيم من يشرف عليه ويضبط حدوده، فإذا كان الإبداع البشري قائمًا على الأصالة والوعي، فإن الإبداع الآلي لا يكون إلا بقدر ما يحترم هذه الأصالة، ولا يتعدى على من ألهمه. والإبداع الحقيقي في الذكاء الاصطناعي لا يكمن في أن يُنتج عملًا يشبه الإنسان، بل في أن يُوجِّه الإنسانُ الآلةَ لتنتج شيئًا جديدًا لا يظلم من سبقه، ولا يبتلع هوية أحد، ولا يستعير جمالًا لم يُعطَ لها عن قصد.
إن الانتحال في عالم الذكاء الاصطناعي ليس قضية تقنية فحسب، بل هو تحدٍّ أخلاقي وثقافي يمس جوهر العدالة في الإبداع. وكلما سعينا إلى مواجهة هذا التحدي عبر الجمع بين التقنية المسؤولة والوعي المجتمعي، اقتربنا من مستقبل يمكن للآلة فيه أن تشارك الإنسان إبداعه دون أن تنتحل مكانه، وأن تكون إضافة إلى الفن لا تكرارًا له، وتكون امتدادًا للخيال البشري لا ظلًا له.
مركز علوم الدولي (د. عبد الرحمن الزراعي)
__________
هل استوعبت الدرس؟