الدرس الثاني: الشفافية وقابلية التفسير – كيف نفهم قرارات الذكاء الاصطناعي بدل الاكتفاء بالنتائج؟
حين نقف أمام أنظمة الذكاء الاصطناعي، يخيّل إلينا أحيانًا أننا أمام آلاتٍ تعرف الإجابة فورًا، وتصل إلى القرار قبل أن نتبيّن نحن بدايته. لكن الإنسان، بطبيعته، لا يبحث عن الإجابات وحدها؛ بل يبحث عن الطريق الذي سلكه العقل -بشريًا كان أو آليًا- ليصل إليها. فالنتيجة مهما بدت صحيحة، لا تكفي لتطمئن إليها النفس إذا بقيت مغلّفة بغموضٍ لا يخترقه الضوء.
وهكذا يظهر سؤال جديد يتجاوز حدود التقنية إلى عمق العلاقة بين الإنسان والآلة: هل تكفي صحة المخرجات إذا جهلنا كيفية توليدها؟ وهل يسعنا أن نسلّم لقرارٍ لم نعرف كيف تَشكَّل، ولا ما هي المعايير التي حكمته، ولا لماذا فضّل مسارًا على آخر؟
إن الأعماق التي تجري فيها عمليات الذكاء الاصطناعي ليست دائمًا مكشوفة. ولذا شبّه العلماء هذه الأنظمة بالصندوق الأسود: صندوقٌ يبتلع السؤال ويُخرج الجواب، لكنه لا يقدّم تفسيرًا يعيننا على فهم ما جرى بين الدخول والخروج. وما دامت آليات القرار غير مرئية، فإن الثقة تظل ناقصة، والعدالة مهددة، والمسؤولية غير محددة.
وفي مواجهة هذا الغموض، جاءت الشفافية وقابلية التفسير كمحورين أساسيين في فهم الذكاء الاصطناعي.
فالشفافية هي الضوء الأول الذي يكشف مكوّنات الصندوق: ما البيانات التي دخلت إليه؟ ما الخوارزمية التي عالجتها؟ وما حدود قدرته التي ينبغي ألا يتجاوزها؟ إنها فتح نافذة نطلّ منها على بنية النظام، نرى عبرها مصادر القرار بدل أن نستسلم لسطح النتيجة.
لكن الشفافية وحدها لا تكفي. فهي تُخبرنا بما هو داخل النظام، لكنها لا تخبرنا لماذا سار الطريق على هذا النحو دون غيره. هنا يظهر دور قابلية التفسير، تلك القدرة التي تشرح للإنسان المنطق الذي قاد الآلة إلى اتخاذ قرارها. فإذا رفض النظام طلبًا أو اتخذ توصية، نحتاج أن نعرف سبب الرفض، وما العوامل الأكثر تأثيرًا، وهل اعتمد على بيانات عادلة أم مصابة بالتحيز.
ومع قابلية التفسير، لا يعود القرار الآلي غامضًا، بل يصبح قرارًا يمكن نقده ومراجعة منطقه والتأكد من أنه لا يعيد إنتاج أخطاء الماضي. فما لا يمكن تفسيره، لا يمكن إصلاحه — وما لا يمكن فهمه، لا يمكن الوثوق به.
ولكي ندرك قيمة الشفافية، نكفي أن نتخيل نظامًا تعليميًا ذكيًا يُقدّم أفضل الشروحات للطلاب المتفوقين، بينما يمنح الطلاب الأضعف محتوى سطحيًا لا يساعدهم على التقدم. ليست المشكلة نية النظام؛ فالنظام لا يملك نية أصلًا. المشكلة أن بيانات التدريب ربطت بين الأداء الضعيف وقلة الجهد، فصنعت حكمًا غير عادل. ولولا الشفافية التي تكشف هذا الخلل، لرسّخ النظام ظلمًا جديدًا في مؤسسةٍ تعليمية دون أن يشعر أحد.
وتزداد المسألة تعقيدًا حين نعلم أن بعض النماذج الذكية مغلقة المصدر، لا يمكن للمختصين دراسة خوارزمياتها على نحو كامل، إما لأسباب تتعلق بالملكية الفكرية أو حماية النموذج من إساءة الاستخدام. وقد ظهرت – في المقابل – نماذج مفتوحة المصدر تتيح للباحثين رؤية الطبقات الداخلية وتعديلها، مثل المبادرات التي ترفع شعار الوصول الحر للمعلومة التقنية. وهكذا يتأرجح العالم بين رغبة في الانفتاح ورغبة في الحماية، وبين حق الجمهور في المعرفة وحق الشركات في صيانة أسرارها.
غير أن الشفافية — حتى لو توفرت — لا يمكن أن تكون مطلقة.
فالنماذج العميقة تتكون من مليارات المعاملات المتداخلة، التي يصعب على أي إنسان أن يتتبعها تفصيلاً. ولذلك جاءت فكرة التفسير الجزئي: أي تقديم شرح مبسّط يبين العوامل الأكثر تأثيرًا من دون الدخول في تفاصيلٍ رياضية لا يمكن للإنسان استيعابها. تمامًا كما لا يحتاج المسافر إلى فهم معادلات الديناميكا الهوائية كي يطمئن إلى أن الطائرة تطير، بل يكفيه أن يعرف المبادئ العامة التي تحكم حركتها.
على أرض الواقع، ظهرت أدواتٌ لتسهيل التفسير:
نماذج مبسطة يمكن تتبع قراراتها خطوة بخطوة، وتقارير تفسيرية تُرفق مع قرارات الرفض أو القبول، وواجهات تعرض للمستخدم ما الذي أثّر في القرار، وما هي العوامل التي رفعت النتيجة أو خفضتها. هذه الممارسات تجعل الأنظمة الذكية أقرب إلى “الحوار” مع البشر، لا مجرد أنظمة تُصدر حكمًا لا يمكن نقده.
إن الشفافية وقابلية التفسير ليستا رفاهيةً تنظيميّة، بل هما شرط وجودٍ لأي تقنية تريد أن تُستخدم بأمان وعدالة. فالإنسان لا يطمئن إلى ما لا يراه، ولا يقبل ما لا يفهمه، ولا يثق بما لا يستطيع محاسبته.
وكلما اقتربت النماذج من أن تكون مفهومة، اقتربت من أن تكون عادلة. وكلما ازداد الضوء داخل الصندوق، تراجعت احتمالات الظلم، وازدادت قدرة الإنسان على توجيه الذكاء الاصطناعي بدل أن يُترك تحت رحمته.
وفي النهاية، تبقى الحقيقة بسيطة في معناها، عظيمة في أثرها:
الشفافية هي حق الإنسان في أن يعرف، وقابلية التفسير هي حقه في أن يفهم. وما دام الذكاء الاصطناعي يتخذ قراراتٍ تمسّ حياة البشر، فإن هذا الحق لا يجوز أن يُساوم عليه. فالنتيجة لا تكفي ما لم نعرف الطريق، والصواب لا يكفي ما لم نفهم سببه، والذكاء — مهما بلغ — لا ينبغي أن يكون معصومًا عن السؤال.
إن الشفافية وقابلية التفسير هما الجسر الذي يصل بين قدرة الآلة وحكمة الإنسان. وكلما عرفنا كيف ولماذا تتخذ الأنظمة الذكية قراراتها، ازددنا قدرة على تصحيح مسارها عندما تخطئ، وضمان عدلها عندما تحكم، وتوجيهها نحو المستقبل الذي نريده نحن — لا المستقبل الذي تفرضه خوارزمياتٌ لا ترى من العالم سوى أرقامه.
_______
ما مدى استيعابك الدرس؟