الدرس 01 - مرتكزات الذكاء الاصطناعي - الأخلاقيات
الدرس الأول: ماهية الأخلاقيات في الذكاء الاصطناعي - ما الفرق بين الأخلاق والقوانين في عالم الآلة؟
حين تنظر في رحلة الإنسان مع الآلة، تدرك أنها لم تكن يومًا مسيرةً صامتةً تسيّرها الأوامر وحدها، بل كانت دائمًا حوارًا متواصلاً بين القدرة والمسؤولية. فمنذ اللحظة الأولى التي أمسك فيها الإنسان بأداةٍ تساعده على مضاعفة قوته، بدأ سؤالٌ ينهض بهدوءٍ في أعماقه: ليس ماذا تستطيع هذه الأداة أن تفعل، بل ماذا ينبغي لها أن تفعل؟
وهذا السؤال، الذي كان يبدو في العصور القديمة أشبه بتأملٍ فلسفي بعيد، صار اليوم جزءًا من صميم حياتنا اليومية، لأن الآلات لم تعد مجرد أدواتٍ جامدة تنتظر من يحرّكها؛ بل أصبحت أنظمة تتخذ قراراتها اعتمادًا على تراكمٍ هائل من البيانات، وتؤثر بقراراتها في حياة البشر تأثيرًا يتجاوز أحيانًا أثر الإنسان نفسه.
وكلما تقدمت بنا التقنية خطوة، اتسعت دائرة هذا السؤال، حتى وصلنا إلى عصر الذكاء الاصطناعي، حيث لم يعد اتخاذ القرار حِكرًا على البشر. وفي هذه اللحظة تحديدًا، تنكشف الحاجة الحقيقية إلى الأخلاقيات: تلك المنظومة الهادئة التي تحفظ للإنسان كرامته حين تصبح القدرة التقنية أوسع من أن تُضبط بالحدس، وأقوى من أن تُترك بلا توجيه.
وحين نتأمل طريقة عمل أنظمة الذكاء الاصطناعي، نكتشف أنها لا ترى العالم كما نراه نحن. فهي لا تعرف الألم ولا الفرح، ولا تدرك أثر قراراتها على حياة الآخرين، ولا تفهم معنى العدالة أو الظلم. كل ما تراه هو أنماط تتكرر، وبيانات تتشابه، ونتائج تقترب من “الصواب” وفق معايير رياضية. ولذلك، فإن الحكم الأخلاقي لا يأتي من داخلها، بل من الطريق الذي رسمه لها الإنسان، ومن المبادئ التي تُعلّم بها كيف تتحرك في هذا العالم.
وهنا يظهر جوهر الأخلاقيات في الذكاء الاصطناعي: أنها ليست زينةً تُضاف إلى التقنية، ولا تُرفًا يُكتفى به عند الكتابة عن المستقبل، بل هي ذلك الخط الرفيع الذي يمنع القدرة من الانزلاق إلى ضررٍ لا يُرى إلا بعد وقوعه. وهي الميزان الذي يقابل كل خطوة تقنية بسؤالٍ بسيط في ظاهره، عميق في أثره: هل ما تفعله الآلة الآن يليق بالإنسان الذي صمّمها؟
ولكي ندرك أهمية هذا الميزان، يكفي أن نرى ما يحدث حين تغيب الأخلاقيات عن الخوارزميات. فقد ظهرت أنظمة توظيف تستبعد فئات كاملة لأنها تعلّمت من تاريخٍ منحاز، وأنظمة ائتمان تُسقط ثقة الناس بناءً على بياناتٍ ناقصة، وأنظمة تشخيصٍ طبي تُعيد إنتاج أخطاء قديمة لأنها وجدت النمط نفسه في بيانات التدريب. وفي كل هذه الحالات، لم تكن الآلة “تريد” الظلم، لكنها لم تكن تعرف غيره، لأنها تعلمت من التاريخ كما هو، لا كما ينبغي أن يكون.
ولذلك جاءت المبادئ الأخلاقية في الذكاء الاصطناعي لتذكّر الإنسان بأن التقنية، مهما تقدمت، لا تستطيع أن تصنع فضيلتها بنفسها. فجاءت مبادئ الشفافية لتفتح نافذة تطلّ منها على طريقة اتخاذ القرار، ومبدأ العدالة ليضمن أن تكون نتائج الأنظمة موزعة على الناس بغير تحيّز، ومبدأ المساءلة ليحدد من يتحمل المسؤولية عندما يخطئ النظام، ومبدأ الخصوصية ليمنع البيانات من أن تتحول إلى بابٍ مفتوح على حياة الأفراد، ومبدأ السلامة ليحمي الإنسان من ضررٍ قد لا ينتبه إليه إلا بعد فوات الأوان.
وهذه المبادئ، التي تبدو للوهلة الأولى كأنها أحجار تُزيّن واجهة التقنية، هي في الحقيقة أساس البنيان، فلا يقوم نظامٌ رقميٌّ رشيد دونها، ولا يكتب لأي منظومة ذكاء أن تنمو في مجتمعٍ يفقد ثقته بها. فالمجتمع الذي يشعر بالخوف من التقنية يُبطئ سرعتها، والمجتمع الذي يطمئن إليها يفتح لها طريقًا أطول وأوسع.
وقد يظن بعض الناس أن الأخلاق قيدٌ على الابتكار، وأن الطريق الأسرع هو ذاك الذي لا تهتم فيه إلا بالنتائج والتحسينات والسرعة. لكن التجربة تثبت عكس ذلك؛ فالتقنية التي تتجاهل الأخلاق تتعثر سريعًا حين تواجهها الأسئلة الصعبة أمام القضاء أو أمام المجتمع، بينما التقنية التي تُبنى على أساسٍ قيميٍّ راسخ، تمضي في طريقها بثقة، لأنها تحمل معها قبول الناس ودعمهم، ولأنها تدرك أن الابتكار الحق ليس في القدرة وحدها، بل في أن تكون القدرة في الاتجاه الذي يحفظ الإنسان ولا يهدده.
مركز علوم الدولي (د. عبد الرحمن الزراعي)
_________
ما مدى استيعابك الدرس؟
ممتاز
جيد
مقبول
4 votes
4:38
5:18
5
6 comments
Abdulrahman Alzarraei
6
الدرس 01 - مرتكزات الذكاء الاصطناعي - الأخلاقيات
powered by
تطوير النماذج العربية الذكية
انضمّ إلى أكاديمية علوم الدولية للذكاء الاصطناعي لإنشاء مشاريع ربحية قابلة للتنفيذ خلال أيام، ودون الحاجة إلى أية خبرة تقنية أو تكلفة تشغيلية
Build your own community
Bring people together around your passion and get paid.
Powered by