تأملات من سورة يوسف
في سياق قصة يوسف عليه السلام، يلفت انتباه المتأمل موقفُ نبيّ الله يعقوب عليه السلام حين عاد إليه أبناؤه يحملون قميص يوسف ملوَّثًا بـ «دمٍ كذب». لم يثرْ جزعًا، ولم يُظهر صخبًا، ولم يُرغم أبناءه على الاعتراف، بل قابَل الموقف بصمتٍ وقور ووعيٍ نَبويّ عميق. هذا السلوك ليس عفويًّا، وإنما يعبّر عن بصيرة الأنبياء وإدراكهم لسنن الله في البلاء والتمحيص.
1. بصيرة يعقوب عليه السلام وثباته
إنّ يعقوب عليه السلام لم يكن غافلًا عمّا وراء ظاهر الحدث، بل رأى بحكمة الإيمان ما لم يره غيره؛ لذلك واجههم بقوله:
{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}
هذه الكلمة لم تكن مجرّد ردّ فعل، بل كانت منهجًا إيمانيًّا لازمَه يعقوب سنواتٍ طويلة، فلم يتبدل يقينه، ولم تضعف ثقته بوعد الله. وحين عاد أبناؤه مرة أخرى وقد فُقِد أخوان، كرّر ذات القول بذات السكينة والثبات.
2. الألم المكظوم والشكوى إلى الله وحده
يمرّ النص القرآني إلى تصوير عمق الألم الإنساني الذي عاشه يعقوب عليه السلام، ألمًا لم يفسد يقينه ولم يخرجه عن مقام الرضا:
{يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ۖ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}
ومع شدّة الكرب، ظلّ يعقوب لا يشكو إلى الخلق، بل لجأ إلى بابٍ واحد:
{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}
إنه نموذج الصبر الذي لا يعني الضعف، بل هو امتثالٌ لوحيٍ رباني وإيمان بأنّ وراء الغيب حكمةً ووعدًا سيتحقق.
3. الثقة بوعد الله وعاقبة الصابرين
لم تفارق يعقوب يقينُه بعودة يوسف وأخوته؛ فدعا ربه قائلاً:
{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا}
وحين انتهت رحلة الابتلاء، تجلّى لطف الله؛ عاد البصر إلى يعقوب، وعاد يوسف إلى أبيه، واجتمع الشمل، وسجد الإخوة نادمين. ولم ينتقم يوسف، بل نظر إلى الحدث كله بعين التوحيد:
{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}
{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاء}
ثم ختم رحلته بدعاء العارفين:
{أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}
4. درس البلاء وعمق الحكمة الإلهية
إنّ الأنبياء هم أشدّ الناس بلاءً؛ يتعرّضون للامتحان ليصفو إيمانُهم، وترتقي قلوبُهم، ويبلغوا مقاماتٍ لا تُنال إلا بالصبر. فالنصر والفرج يأتيان غالبًا عند لحظة اليأس الإنساني وتمام الابتلاء:
{حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا}
القصة في مجموعها ليست عرضًا تاريخيًّا، بل تربيةٌ إيمانيةٌ تُعلّم القلب أن ما بعد الغياب إلا اللقاء، وما بعد الدمع إلا البسمة، وما بعد البلاء إلا الفرج. هذا وعد الله:
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد ﷺ.
11
5 comments
Dr Maher Ezzat
6
تأملات من سورة يوسف
powered by
Al Mahero
skool.com/al-mahero-4135
دراسات القرآن الكريم وعلومه وفقًا لمنهج الأزهر الشريف وتحت إشراف علماء الأزهر الشريف
Build your own community
Bring people together around your passion and get paid.
Powered by